31‏/10‏/2020

صوت الذات و حورية البحر.. ~





قبل أشهر ، كنت محظوظة كفاية بأن أزور كوبنهاغن مسقط رأس الكاتب الشهير H.C Anderson ( 1805-1875( 
والذي أنتج في سنواته السبعين أكثر من 3810 قصة خيالية للأطفال.. ترجمت لأكثر من 125 لغة .. وكان اتجاهه لقصص الاطفال ليس سوى وسيلة لتخليد الحكّم و المواعظ التي لم تكن لتحتوى في مدارس.. او مناهج او تعاليم معقدة كالتي تستخدم حالياً .. 
كانت قصص الأطفال هي الوسيلة الوحيدة.. و الوسيط الوحيد الذي به تمرر الدروس الاخلاقية عبر الأجيال..



و يعتبر اندرسون أحد أهم معالم الفخر الدنماركي بحيث يوجد له متاحف خاص بأسمه و مراكز تعليمية في الدنمارك و تم تصميم طوابع بريدية خاصة له في كثير من السنوات.. خياله الرائع كان مثل النهر الذي لا يمكن تخفيفه.. والذي يغرّق معه عقول القراء من كافة الاعمار.. 
من نهل نهره.. كانت تلك القصة المتمهلة التي توقفك للتفكر في احداثها من شدة معانيها.. وهي قصة حورية البحر.. The little Mermaid .. و التي كانت موجودة في قصص مصورة من رسم الفنان اندرسون.


صورة الغلاف الاصلي من قصة حورية البحر.. ملتقطة في مارس 2019 في متحف اندرسون - كوبنهاغن الدنمارك


من جماليات القصة ، تم تصميم تمثال في وسط بحر كوبنهاغن .. تمجيداً للفكرة العبقرية التي رسمها و أوجدها اندرسون.. 
صورة تمثال حورية البحر  - ملتقطة في مارس 2019 في كوبنهاغن - الدنمارك

وفي ثمانينات القرن الماضي.. ألتفتت شركة ديزني العالمية إلى روعة الحكاية الدنماركية و قررت تبني حقوق الحكاية و إنتاج الفيلم المثير للإعجاب و التعجّب .. والذي يلامس كل مراحل النضوج العاطفي الذي تمر به إي فتاة .. 





كانت قصة حورية البحر .. قصة عادية حتى ألتقيت بالأستاذ الفاضل " وليد هاشم " والذي قام بشرح مفاهيم الحكاية من منظور علم نفس النمو ممزوج بالريكي و فلسفات الطاقة الشرقية الذي يمارسها في مركز البحرين للطاقة الإيجابية.. و كانت محاضرته شديدة التطبيق و التنظير على الواقع الاجتماعي حولنا.. و يجيب على كثير من الأسئلة .. ما هو دور هوية الفتاة تحديد علاقات الحب و اختيارها لشريك الحياة ؟ 

في هذه التدوينة .. تنتظركم رحلة مائية في محيط دروس الحياة الموجودة في حكاية ديزني للأطفال .. 

تبدأ القصة.. و يبدأ الفيلم .. بمشهد عرض الخلفية الوالدية لأسرة حورية البحر.. يظهر ملك البحار السبع الذي يحكم الجميع بالعصا التي يملكها و لديه سبع فتيات.. ظهرت شخصية والد آريّل على أنه منفوخ الصدر .. حكيم و غضبه سهل عندما لا يصاع له أمر 

يغلق عينيه بطمأنينة و فخر ان فتياته السبع الموهوبات ، على قدر ما يريد و أكثر.. لديهن من الموهبة الذي يشبع غروره و فخره بتربيته.. عوضا انه آله البحر في القصة 
 نشاهد في المشهد.. ست فتيات.. ست أخوات ملتزمات .. مهذبات مطيعات لوالدهن... مما يدعو للطمأنينة لأي أب يتمنى الخير لبناته ويسعد بحمايتهن من أي سوء.. 

 وتأتي شخصية آريّل بوضوح.. البنت الصغرى التي تعصي والدها و لا تحضر للاستعراضات الموسيقية أمامه.. ولا تعتذر.. لتكون أكثر شخصيات ديزني تمردّاً  و قوة.. 


غضب الأب يزداد و تتحول عيناه للوّن الأحمر.. مدركاً أنها تعصي أمره و أنها ليست كما أخواتها .. و أنها حتماً ذهبت إلى سطح البحر المخيف الذي لطالما تم تحذيرها من الأقتراب منه.. 
وهذه الفكرة في الحكاية هي تجسيد لتصرف الآباء التربوي اتجاه أي ابنة من بناته.. هناك قواعد واضحة .. ما هو مختلف عنا لا يجب الاقتراب منه .. ممنوع السفر ممنوع الاختلاط بلغات أخرى .. أعراق أخرى .. او أي شخص من الجنس الآخر.. 
ولكن ، حورية البحر كانت مختلفة كفاية أن يكون أول ما تريد.. هو المستحيل.. 

 في المشهد الذي يليه.. تظهر آريل بشعرها الاحمر و عيناها المفتوحتين كأنها دمية متعجبة من هول منظر السفينة الغارقة في المحيط.. ممتلئة بالحماس و مستعدة للمخاطرة في سبيل الاكتشاف والبحث عن ما يمكن تجميعه في غرفتها المليئة ببقايا الاغراض البشرية التي لا تدرك طريقة استخدامها.. 


كما أنها تأخذ حقيبة مثل البشريين تمسكها بذراعها تملأها بالشوكة التي تخمّن انها لتمشيط الشعر وسط استغراب صديقها السمكة المتعجب من برود أعصابها و تجاهلها للمخاطر التي تحيط بركام السفينة .. 



تراقبها آرسلا .. الشخصية الشريرة في الحكاية .. و التي تشعر بالملل الشديد و التجاهل و الرغبة في الانتقام و هذا تجسيد حقيقي لما يسمى في علّم النفس " الآيغو " او النفس الآمارة بالسوء او الشيطان الذي يهدف للتدمير و قتل المتعة باللحظة والاهم تدمير فرص الحب والسعادة .. 


ثم تأتي آريّل.. تخضع لوالدها الذي يأنبها.. تعتذر و لا تعاند .. وتبرر انها نست.. و تعتذر.. و يدافع عنها صديقها السمكة الذي يقول أنهم واجهوا صعوبة في الوصول إلى الحفل.. و يقول أنهم ذهبوا للسطح هروباً من الأسماك الخطرة.. 




ثم يحدث الحوار المليىء بالأحكام المطلقة.. يقول والدها " وصولك للسطح يعرضك فرصة التعامل مع البشر الهمج" 
وهذا يعتبر إطلاق حكم مسبق سلبي لا تقبله آريّل المحبة للإكتشاف والمتعة و المنفتحة على العالم الآخر.. 
و تقول أنهم ليسوا همّج ! 



يصرخ والدها ولا يترك لها فرصة النقاش.. كما يصرخ أي أب في وجه أبنته التي تحاول الدراسة بالخارج او العمل او التعرف على شخص " همجّي" في نظره.. 
بعد نوبة الغضب.. يصبح الأب لطيفاً و يقترب من الحورية و يقول " انت صغيره .. عمرك 16 سنة .. كيف لا تخافين من آكلة لحوم السمك البشريين " 


ويلامس وجهها برقة، وكأنها ستسلم للأفكار المغلفة باللطف التي يحاول والدها أن يغرسها بداخل عقلها العاصي.. 
ولكنها تكرر ذاتها و تعبر عن رأيها .. أنا لست صغيره !! 
و يرد عليها.. " طول ما انت تعيشي في محيطي ! لازم تسمعي كلامي" تماماً كما يقول الأب في مجتمعنا ، طول ما أنتِ ابنتي و تعيشين تحت هذا السقف.. واجب عليكِ سماع كلامي .. وهنا تظهر أول عقد الوالدية التي تكون بالقوة Force وليس التأثير Power. 

تذهب آريل و تتسائل عن تناقض أفكارها ، كيف يمكن لأشخاص يخترعون اختراعات غاية في الجمال مثل " الشوكة" و يكونون بالسوء الذي يذكره والدها .. و تحاول الدفاع عن فكرتها المنطقية في عدم الحكم عالاخرين و تعميم افعالهم .. كانت حورية البحر في حالة حب و شغف لعالم الانسان حتى قبل أن تكتشفه .. هنا تظهر الفلسفة التي تؤمن أن الاستعداد للشيء يجلبه.. و إن جهَزَ طالب ظهرَ المعلم. 



كانت آريّل متعلقة بفكرة الانضمام لعالم البشر بشكل رهيب.. كانت تراقب الألعاب النارية التي تظهر من سفن البشر بأعجاب شديد و تعلق و شغف أنساها رغبة أباها و زاد من عصيانها .. وكانت اللحظة التي شاهدت فيها البطل " آيريك" الذي كان مختلفاً عنه جسدا و فكراً .. كان شاب له شعر أسود يختلف عن شعرها الاحمر.. و عيناه بلون مختلف أيضاً دلالة على حبها ما هو مختلف عنها و انجذابها لكل ما هو فريد.. كان أميراً و نبيلاً و عفوياً و مضحكاً و كل الصفات التي كانت تراقبها الحورية بإعجاب.. 




و غالباً عندما يكون أحد أبطال القصص متعلقاُ بنتيجة ما او شخص ما.. تحدث الكارثه الحقيقية.. تماماً كما يتعلّق أي شخص بأي مخلوق بخلاف الخالق.. وكانت الكارثة هي العاصفة التي أغرقت آيريك .. ولكنه كان محظوظ بوجود آريل التي انقذته وغنت له على الشاطىء.. حتى استيقظ من اغماء الغرق الذي كان به.. 


الصوت.. هو الطاقة التي تنتقل للتعبير عن الهوية الذاتية.. و في الفلسفات الشرقية ، تعتبر شاكرا الحلق و يرمز لها باللون الازرق هي اساس الهوية و أن أي مشاكل تحدث في الحنجرة هي دليل في التعبير عن الهوية وتأكيد الذات.. حورية البحر كشفت عن هويتها الحقيقية بالغناء للبطل.. و هنا يحب ايريك حقيقة الحورية .. وهذا ما يحدث اثناء ولادة أي محبة بين أي شخصين.. تظهر الحقيقة على السطح و يحب الاول في الاخر حقيقته قبل أن تغطي هذه الحقيقة المخاوف والشكوك و غيرها من العوائق الداخلية و التي منبعها الذات الدنيا - الايغو او النفس الامارة بالسوء. 

وتعود للبحر.. والبحر يرمز إلى الحب في هذه الرواية.. وتعود لبيتها تحت اعماقه سعيدة.. طاقتها عالية تغني و ترقص وسط استغراب أخواتها.. و وتضع وردة في شعر والدها الذي لم يستطع تمييز حالتها.. 



وتساءل والدها وسط اخواتها.. عما يحصل لها.. فقالت له احداهن انه من الواضح أنها تحب.. ولكنه لم يستطع تمييز هذه الطاقة لطبيعته الذكورية العملية المنطقية.. 


ومن ثم تحتفظ آريل بتمثال آيريك الذي احبته من أول نظره.. تبدأ بالخجل من تمثاله.. و تؤمن انه حقيقة و تتعامل معه على أنه امامها.. تماماً كما نبني بداخلنا تماثيل لمن نحب و نظل نرغب بالاعتقاد انهم حقيقة..


ثم ينتهي حلم اليقظة التي كانت تعيش به.. و يأتي والدها بجبروبته و يناقشها عن حقيقة إنقاذها للإنسان من الغرق..
يقول لها والدها جميعهم مجرمين يستحقون الموت.. و تصرخ آريل .. ولكنك لا تعرفه ! كيف حكمت عليه؟ 
يرد عليها بالقول انه ليس بحاجة للتعرف عليه.. كل بني البشر مختلفين عنا و أشرار.. ومتوحشين و آكلي لحوم البشر..



بكل براءة.. تقول " بابا أنا احبه " و يغضب الأب غضباً لا مفر منه.. يدمر كل ما لديها من آثار من البشر.. قائلاً بغضبه ان حبها مستحيل .. 

المستحيل ، ليس مفهوماً لدى الحورية.. حيث انها تلجأ بعد ذلك إلى ساحرة البحر الشريرة - والتي ترمز في هذه القصة إلى النفس الأمارة بالسوء.. الايغو و الكبرياء الذي نلجأ إليه في لحظات الضعف و العجز وعدم الإيمان- 


آرسلا .. شخصية تمثل النفس الأمارة بالسوء.. الكبرياء.. لما نشعر بالسوء.. نروح لكبريائنا و للكراهية النابعة من الشيطان.. والتي هدفها الأول والاساسي ان تجعل الانسان يختار طريق الكراهية .. الذي هو طريق الحروب والدمار .. والهدف الاساسي لآرسلا ان تكره آريل باقرب حبيب لها .. سواء كان اباها او آيريك.. 
و آرسلا.. مثل الايغو الذكي الذي لا يقول بصراحة رغبته في زرع الكراهية.. لذلك بالبداية.. يضرب في وتر التوحيد.. في اننا جميعاً متحدين بشكل او بآخر.. لذلك.. دائماً ما تقول لنا نفسنا الامارة بالسوء.. ان سعادتنا بيد شخص واحد هو الوحيد والجدير ان نتعلق به .. و اننا في حال خسارتنا لهذا الشخص نكون في جحيم..

آريل.. كما الكثير من اللحظات التي يمر بها الانسان.. كانت غير واعية.. وبذلك آمنت بثلاث أفكار سامة من آرسلا.. 
الاولى: ان سعادتها بيد بشري واحد لا يوجد سواه .. ( عكس مبدأ الوفرة ) 
الثانية: ان كل شيء يجب ان يكون له ثمن و مقابل.. ( عكس مبدأ الغنى بالنعم) 
الثالثة: ان يجب أن يحبها آيريك في وقت معين.. قبل ان ينتهي اليوم ( عكس مبدأ التجلي والسريان ) 
















من شفيلد أحييكم .. ٢

 في بعض المرات، تخونني الذاكرة فلا أدرك ما الذي حدث قبل الآخر ؟  كل ما اتذكره أن اول معضلة كانت.. الحصول على مشرف يتبنى فكرة البحث الخاصة بي...