14‏/06‏/2018

إلى التي تعرفني .. قبل أعرفني..


كانت تشتري لي قلماً واحداً .. تخاف أن اكتب اكثر مما أكل .. 
رفضت أن تعترف بحاجتي لنظارة طبية ، لأقرأ .. لأرى أكثر .. 
كان يكفيها أن أراها .. أن أمسك بطرف عبائتها في كل مشاويرها.. 
تجبرني كل صباح على شرب الحليب قبل صعودي لباص المدرسة.. 
تمشط شعري رغم أنهاكها كل صباح .. وطيلة اربع سنوات متتالية.. 
في كل عيد ، تشتري لي وحدي الفستان من أجمل المحلات.. ألبسه و أتأنق به..
تقص شعري حتى يتناسق مع فستاني، تتحرى حكاياتي في أول يوم العيد.. 
" ماذا حدث؟ من تحدث معك ؟ من سأل عني ؟ .. "
هادئة جداً ولم تكن تحب الظهور الاجتماعي ولا جلسات الأنس بين النساء..
كنا نحن جلساتها ونحن أنسها الذي من لين رحمها.. 

كانت تطوقني بيديها في كل ليلة، أنام و أعد لغاية المئة .. أجبر نفسي على النوم حتى لا أوقظها..
وأكتشفت أنها كانت أيضاً تجبر نفسها لتنام.. حتى لا توقظني.. 
كانت تخاف علي من الحسد و العين و مختلف الأشياء التي تبقى في أثير النساء. 
و أكتشفت أنها لم تحتفظ بأي شهاداتي لأنها تدرك أنها كانت البداية فقط..

تسمح لي بالغياب من المدرسة ، إذا ناقشتها بفائدة الغياب أكثر من مضاره.. 
لم يكن لديها مانع إذا كان السبب أن اشاهد إعادة أحد البرامج في الصباح الباكر.. 

تغار علي من المعلمات ، تحب لو أنني اخترتها ملهمتي الوحيدة ..
كانت تحبني أن اختصها بكلمة " أمي " من دون البشر .. 


عندما يوضع أسمي في جريدة اليوم ، لتميز أو انجاز قمت به...
تشتري أكبر عدد من النسخ ، ترسلها أقاصي الجزيرة العربية لتشارك أهلي فرحتها بي..

كانت تدرك أنها جميلة.. وأنني أفتخر في كل يوم تقف فيه أمامي .. 
أفتخر أنني يوماً من الأيام سأرث منها مبسمها و طيبة قلبها.. 

كنت أتألم كثيراً ، إذ لم تكن تحضر مناسبات المدرسة ولا احتفالاتها.. 
قبيلة المعلمات يهاجمن أمي دوماً " أبنتك متميزة و ذكية ولكن شدي عليها " 
ردها كان الأوحد " لا أحد يعلمني كيف أربي أبنتي العاشرة ! "

تركتني أسافر لوحدي لتمثيل البلاد في سوريا ، وكنت يومها في الحادية عشر من العمر..
تتحدى الجميع  من معتقدات أجتماعية و قيود قبلية و تدرك أنني استحق المراهنة.. 

في المطر ، ممنوع أن أخرج و ألعب .. 
في الأعياد ، ممنوع أن أكل البوظة.. 
في المدرسة ، ممنوع أن أخذ أكثر من قلم ..
في المكتبة ، ممنوع أن استعير أكثر من كتاب ..

كأنها استبصرت أنني سأحب المطر بمنظره لا ملمسه ، و البوظة ستصبح آخر مفضلاتي ، 
و الأقلام ستصبح أدماني .. و الكتب .. وسيلتي الأمثل للنمو .. 

علاقتي بها ليست مبنية على الواجب ، أو البر أو غيرها .. 
علاقتي بها علاقة مسافرين أثنين ، علقا في طائرة .. 
كان أحدهم الأقوى في بداية الرحلة ، و أصبح الاضعف في نهايتها .. 

كبرت أمي ، أصابها من نصيب الحياة ما يجعلني أمها .. 

لا أشعر بالغضب تجاه مجريات الاحداث أو القدر الذي أصابها دون غيرها.. 
أدرك أنها علمتني التسليم قبل أن اتعلم السلام .. 

تدرك أنني أود تقديم الكثير لهذا العالم ، عرفتني قبل أن اعرف نفسي .. 
وأدركت أنني أحب رفقتها ، لذلك .. حافظت على نفسها قدر الامكان .. 

أمي الأن ، أمشط شعرها بكل حب.. و أسند رقبتها الممشوقة بوسادتها المفضلة ...
أمنعها من البوظة ، و المطر .. و فقراء اللحظة و مسرفين الوقت .. 
أفتخر أنها قوية ، وأنها رغم كل الصعاب .. حتى وأن كانت حركة يديها صعبة .. 
علمتني كيف أرى الجميل في القبح ..و الرحمة في الشدة .. و الخير في الشر .. 
أراها .. و أعلم انني كنت محظوظة جداً بها .. 
وما زلت أرى الحظ و البركة في كل خطواتي.. 

أحبها .. حب الصديق لأقدم اصدقائه .. 
و أحب كل الذين يحبون أصدقائهم القدماء .. 


علمتني الحب ، في وقت أدركت أنه سيكون القيمة الأهم في الحياة.. 
وأدركت أنه لا يجيد الحب سوى من امتلأ به..

شكراً شمسة .. 
وكل عيد و روحك و قلبك و جسدك في سلام و طمأنينة .. 





من شفيلد أحييكم .. ٢

 في بعض المرات، تخونني الذاكرة فلا أدرك ما الذي حدث قبل الآخر ؟  كل ما اتذكره أن اول معضلة كانت.. الحصول على مشرف يتبنى فكرة البحث الخاصة بي...